الزجاج المعشق /
صناعة الزجاج حرفة قديمة
الرجوع إلى: الزجاج المعشق
وتعتبر
صناعة الزجاج من الحرف العريقة التي ورثتها الأجيال جيلاً بعد جيل حتى هذا
العصر، وهي من الحرف التي تستمد مادتها من البيئة، حيث تعتمد على مخلفات
الزجاج كمادة خام، وعلى الألوان التي يختارها الحرفي.
وقد شهدت هذه
الصناعة تطوراً كبيراً وملحوظاً في العصر الإسلامي في المنطقة العربية
لاسيما في بلاد الشام وفي دول المغرب العربي، وبرزت الزخرفة الإسلامية على
سطح المرايا والقوارير بألوانها المطلية بالذهب وبالنقوش المتداخلة وخطوط
الرسوم الهندسية التي تميز بها الفن الإسلامي.
وبقيت هذه المهنة في
ازدهار واكتسبت أهمية كبيرة في الفترة الواقعة بين القرن الرابع الهجري
وحتى القرن الرابع عشر، ثم أدخلت عليها تقنيات حديثة في صناعة الزجاج
كأشكال بديلة عن النفخ التقليدي، لارتباطها ارتباطاً وثيقا مع منتجات
الديكور والإكسسوارات.
وكان لطريقة النفخ في الزجاج مكانة مميزة في
إنتاج القوارير ومزهريات الزينة، هذه الطريقة التي تعتمد على تعبئة الهواء
داخل قوارير وقوالب بعد تسخينها وصهرها في درجات عالية من الحرارة، حيث أن
عملية النفخ في كتلة العجين الزجاجي تنتج أشكالاً مختلفة من المنتجات
الزجاجية كالأباريق والمزهريات وعلب الحلوى وصناديق الزينة والقوارير،
ويحدد الحرفي الشكل والحجم النهائي للقطعة المراد تكوينها، ويختار لاحقاً
نوع الزخرفة والنقش على سطحها، ويحتاج الحرفي الذي يعمل في صناعة الزجاج
إلى مهارات فنية عالية كالمثابرة أمام أفران تعمل في درجات مرتفعة من
الحرارة، والتدريب المستمر لفترات قد تصل إلى 4 سنوات لإتقان هذه الصنعة،
وكذلك فلابد من توفر القدرة الإبداعية والفنية عند الحرفي لاكتساب المزيد
من المهارة ومن ثم الإبداع في هذه الحرفة التي تحتاج إلى مواكبة الزمن
والتطور وإنتاج نماذج مختلفة بين الحين و الآخر.
الزجاج الملون:
الزجاج الملون جزء أساسي من الديكور
عرفت
أنواع مختلفة من الزجاج الملون قديماً، ولا يزال أثر هذا الفن باقياً في
آثار غرناطة حيث "قصر الحمراء" المزين بالثريات والقمريات الزجاجية، كذلك
مسجد قرطبة الذي أقيم في عهد الخليفة عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن
الداخل) الذي زين بأكثر من 365 ثريا ومشكاة وقنديل للزيوت.
وحاليا
أصبح الزجاج الملون من أكثر المواد عصرية في المباني، والذي كان يعتبر مجرد
زخرفة لمدة طويلة من الزمن، وهو يخضع اليوم لخطوات أكثر ابتكاراً، وذلك
نتيجة الاستغلال الأمثل للإمكانيات الكبيرة الموجودة في الزجاج وكذلك
استغلال التقنيات الحديثة وتطور الفكر الإبداعي والهندسي.
صناعة الزجاج المعشق في العصر الإسلامي:
يشكل
الزجاج المعشق فناً من فنون البناء والديكور في التراث الإسلامي، فلفترة
زمنية طويلة كان توظيف الزجاج بألوانه في البناء ضرورة لا غنى عنها عند
تشييد القصور والأبنية، كعنصر رئيسي من عناصر الديكور التي تضفي جمالاً
وسحراً في العمارة الإسلامية، حيث انتشرت نوافذ الزجاج المعشق بالجص كمظهر
من مظاهر العمارة الإسلامية التي جاءت متوافقة مع الظروف المختلفة لذلك
المجتمع.
ومن الأمثلة المبكّرة للنوافذ الجصية المفرغة "نوافذ قصر
الحير الغربي" ببادية الشام والجامع الأموي بدمشق وجامع عمرو بن العاص
بالفسطاط في مصر وجامع أحمد بن طولون.
وكان الرأي السائد لدى علماء
الفنون والآثار من قبل أن أول ظهور للنوافذ الجصية المعشقة بالزجاج كان في
العصر الأيوبي، وذلك في نوافذ قبة ضريح السلطـان الصالح نجم الدين أيوب
الملحق بمدرسته بالنحاسين بالقاهرة، ولكن الحفائر الأثرية أثبتت أن الزجاج
المعشق بالجص استخدم منذ العصر الأموي، واستـمر في قصور الخلفاء العباسيين،
كما استخـدمت في أواخر العصر الفاطمي ألواح من الجص معشق بالزجاج الملوّن
بدلاً من الألواح الرخامية والحجرية المفرغة، وانتقل هذا الأسلوب الفني إلى
عمارة العصر الأيوبي حيث بلغ أوج ازدهاره في العصر المملوكي، وأصبح من
السمات المميزة للعمارة المدنية والدينية في العصر العثماني.
وقد
عرفت بعض بلدان العالم الإسلامي أنواعاً متعددة من النوافذ مثل المدورات
الرخامية اليمنية (القمريات) التي كانت تتميز برقتها ولا يزيد سمكها عن
سنتيمتر ونصف بحيث تسمح بنفاذ الضوء من خلالها، و(الشماسات) المغربية وهي
عبارة عن نوافذ نصف دائرية توجد أعلى الأبواب والنوافذ وتغطى بالخشب
والزجاج الملون وتسمح بدخول ضوء الشمس، ومع دخول العثمانيين إلى العديد من
البلاد الإسلامية أصبح أسلوب النوافذ الزجاجية المعشقة بالجص هو الأسلوب
السائد.
ولكن ما هي القمريات والشمسيات؟
تعتبر (القمريات
والشمسيات) أحد العناصر البارزة في المباني العربية والإسلامية، والتي تم
توظيفها لإيجاد علاقة تجمع بين القيمة الجمالية والنفعية، فمن وظائفها منع
الحشرات التي تتسلل من خارج المبنى إلى داخله، وهي بهذا تحقق مبدأ أمني
يتعلق بحياة الإنسان، كما أنها ترشد من كمية الضوء الداخل إلى المكان وتمنع
الأتربة، وهي تخفف الأحمال على الأعمدة الحاملة للعقود.
وكان
ابتكار هذه الشمسيات والقمريات بدافع من الرغبة في تخفيف حدة الضوء في
القصور التي شيدها الخلفاء في الشام ثم استعملت في المساجد ذات الصحن
المكشوف للغرض نفسه، وانتشر هذا النوع من الشبابيك في العمائر الدينية،
وتعرف هذه الشبابيك عادة باسم "القمرية" إذا كانت مستديرة، وباسم "الشمسية"
إذا كانت غير مستديرة، وأقدم شباك منها محفوظ في المتحف الإسلامي في
القاهرة وأصله من جامع الأمير "قجماس"، الذي يرجع تاريخه إلى أواخر القرن
التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
التحول من التعشيق بالجص إلى التعشيق بالرصاص:
استخدم
العرب الجص "الجبس" للشمسيات والقمريات كخامة أساسية عند تعشيق الزجاج،
لعدم وجود عوائق تحول دون انتشارها لجفاف الجو من ناحية واستقرار معظم فصول
السنة من ناحية أخرى، بالإضافة إلى الدفء الذي تحدثه الشمس والذي يأتلف
معه الجبس كخامة مستخدمة في التعشيق .
ولكن تلك الخامات لم تتوافق
مع جو أوروبا لتأثرها بالمناخ البارد ذي الرطوبة العالية أغلب فصول العام،
فطرح اختلاف المناخ الأوروبي على فنانيهم فكرة استبدال الجص بمعدن طيع سهل
هو (الرصاص) أو (بلاط الأسمنت الصلب بعد الجفاف)، وهاتان الخامتان مع
الزجاج الملون جعلت لأوروبا تقنيتين معروفتين تعكسان التوافق بين الخامة
والمناخ هما "فن الزجاج المؤلف بالرصاص"، و"بلاطات الزجاج مع الأسمنت".
وقد
استلهم فنانو الغرب فن النوافذ الزجاجية من العمارة الإسلامية، مع استبدال
الجص بشرائح من الرصاص تثبت بها قطع الزجاج، وذلك لملائمة الرصاص للجو
البارد الذي يسود أوروبا لكن الفنان الأوروبي قام بترتيب قطع الزجاج بحيث
تكون رسوماً آدمية وحيوانية ومناظر دينية (أيقونات) مختلفة في ذلك عن
الطابع الزخرفي الذي تميّزت به الأعمال الفنية الإسلامية، وتشكل نوافذ
الزجاج المعشق بالرصاص ملمحاً أساسيا ومميزاً في الكنائس والكاتدرائيات
المنفذة حسب الطراز الفني القوطي والرومانسكي.
تطور صناعة الزجاج المعشق في أوروبا:
تطور
فن النوافذ العربية المطعم بالزجاج المعشق "الشمسيات والقمريات" في القرن
العاشر الميلادي، في أوروبا حيث ظهر عندهم طراز منه أسماه الأوروبيون
(الموريش) نسبة إلى عرب شمال أفريقيا والمغاربة، وكانت تتم صناعة هذا
الطراز بإحدى طريقتين:
الأولى:
عن طريق نحت الرخام أو الحجر وإدخال قطع الزجاج في المكان المنحوت.
الثانية:
عن
طريق وضع قطع الزجاج في اللياسة قبل أن تجف، ويتم تقوية وتدعيم هذه
اللياسة بوضع قضبان من الحديد داخلها، وبذلك تكون اللياسة المدعمة بالحديد
تحيط بقطع الزجاج، ومن أبرز النماذج المعتمدة على هذا الأسلوب (نوافذ
الجامع الأزرق) في مدينة استانبول بتركيا، حيث استخدم الزجاج في تصميم
نوافذ متميزة برسوم الزهور.
بعد ذلك تطورت صناعة الزجاج المعشق،
وأصبح استخدام الرصاص والنحاس كبديل للرخام والحجر واللياسة، لتصبح تصاميمه
أكثر جمالاً وأفضل جودة وأقل تكلفة
الموازييك أحد فنون الزجاج المعشق:
فن الموزاييك
الموزاييك
كلمة أعجمية تقابلها في اللغة العربية كلمة (فسيفساء)، وهي تشير إلى نوع
من الفن يقوم بالأساس على تجميع قطع حجرية أو خزفية أو زجاجية صغيرة تعطي
في النهاية الشكل المطلوب في صورة متفردة بديعة.
وتستخدم تكوينات
"الموزاييك" المصنوعة من الزجاج لكساء الحوائط الخارجية والداخلية للمباني
ولكساء الخشب، أو لعمل بانوهات خاصة وغالباً ما تُستخدم طريقه "الموزاييك"
في صنع وحدات الديكور التي تصنع للمداخل والممرات بالمصانع والشركات
والسلالم والحمامات وذلك لسهولة تعشيقها (بالخرسانة) بالإضافة لاستخدامها
في عمل المناضد والكراسي حول حمامات السباحة.
مدارس فسيفسائية متعددة:
وقد
برعت المدرسة البيزنطية في تعميق فن (الموزاييك) بالأسلوب التعبيري
الرمزي، وبرع فنانوها في استخدامه في تجميل الكنائس بخلفيات ذهبية وتقسيمات
غاية في الإبداع، في حين اتجهت المدرسة الرومانسية إلى الأسلوب الأكاديمي،
وذلك لما يتمتع به روادها من مهارة ودقة في صياغة وصناعة خاماتها الزجاجية
المطبوخة، والحصول على درجات لونية شديدة التقارب بعضها البعض، لدرجة أن
المشاهد لهذه اللوحات الفنية لا يمكنه التفرقة بينها وبين اللوحات الزيتية،
وتوجد هذه الأعمال الفنية الرائعة على جدران مباني كنيسة الفاتيكان بروما
وأماكن أخرى متفرقة في إيطاليا.
الموزاييك الإسلامي:
ولاشك في
أن فن (الفسيفساء) الإسلامي هو الأكثر تفرداً وتميزاً من بين كل فنون
(الموزاييك) الأخرى، فعلي امتداد(14) قرناً لعب الفن الإسلامي دوراً هاماً
في التأثير على الحضارات التي جاءت بعده ولا يزال تأثيره موجوداً حتى الآن،
فالآثار الباقية من العصر الإسلامي الوسيط تعطينا صورة بديعة عن شكل
الحياة في ذلك العصر، والذي تمثل بأفضل صوره في الزخارف الهندسية التي
استخدمت بدقة في المساجد والأبنية التي بقيت لنا منذ ذلك العصر.
وقد
استخدم الفنان المسلم منهجاً جديداً في فن الفسيفساء هو الذي حقق له تقطيع
الفسيفساء بأشكال تميزه عن الفنون الأخرى، وتجلى هذا الاختلاف في أبهى
صوره في ابتكار أشكال هندسية خماسية وسداسية، وقد شهدت مصر أروع أشكال
الإبداع والابتكار في فن الفسيفساء، وخاصة في الأعمال الفنية التي تم
الاستعانة فيها بالأنماط الهندسية، ومنها (المشكاة) ذات الفسيفساء الرخامية
الملونة، أما في دول المغرب العربي فلا يزال الفنانون هناك يستخدمون
الأنماط والأشكال النجمية والدائرية والخماسية والسداسية والرباعية
والأشكال المعقوفة المصنوعة جميعها من مادة الرخام والخزف الملون، بحيث
تعطي في تجميعها أشكالاً من الأطباق النجمية.
وقد استفاد فن
الفسيفساء الإسلامي من فنون (الموزاييك) الأخرى التي سبقته، وقصة هذا
الامتزاج والتفاعل بينهم تبدأ منذ فتح العرب لبلاد الشام حيث وجدوا هناك
مدرسة فنية تنتمي إلى جذور ساسانية- هيلينية- بيزنطية، ووجدوا فنانين شوام
تلقوا أساليبهم الفنية على أيدي فنانين من الروم، فاستفادوا من هذا الفن
وقاموا بتطويره، وقد اكتشف العلامة الفرنسي (دي لوريه) أجزاء نمطية الشكل
كانت مغطاة بالملاط في الجامع الأموي استخدم فيها الفنانون الفسيفساء في
رسم منظر لنهر رائع على ضفته الداخلية أشجار ضخمة تطل على منظر طبيعي مليء
بالرسوم لعمائر كثيرة بين الأشجار والغابات، ومن هذه العمائر رسم لملعب
للخيل، ورسم آخر لقصور ذات طابقين وأعمدة جميلة، ورسم ثالث لفناء مربع
الشكل وله سقف صيني الطراز، فضلاً عن عمائر صغيرة تبدو وكأنها مصنوعة بحيث
تكون متراصة الواحدة فوق الأخرى، وفوق النهر توجد قنطرة تشبه قنطرة أخرى
موجودة فوق نهر بردى في دمشق، مما جعل البعض يظنون أن هذه الرسوم قصد بها
رسم مناظر من مدينة دمشق.
إذن فقد تبلور فن الفسيفساء بعد أن
اكتملت الهوية الفنية الإسلامية، واتخذ لنفسه هذا الأداء والأسلوب الإبداعي
بعيداً عن فن (الموزاييك) الغربي الذي اعتمد علي استخدام قطع صغيرة
متشابهة هندسياً، ولذلك فقد تميز الفن الإسلامي بمنهج خاص يظهر بوضوح في
المساجد والعمائر الإسلامية التي استوحى منها الفنان المسلم روحه الفريدة
وقيمه الأخلاقية والاجتماعية والدينية.